جريمة التجسس الإقتصادي : السلاح الخفي الأكثر خطورة بنتائجه على أمن وإقتصاد الدول

لم يعد السلاح أكان تقليدياً أو نووياً أداة حصرية لتحقيق دولة ما إنتصاراً على أخرى، بمعنى آخر الهزيمة تعني الإنهيار، إذ يبرز التجسس الإقتصادي بين الدول والشركات والمؤسسات الضخمة كأحد أبرز وأكثر الأساليب حداثة وتقنية للحصول على المعلومات من خلال وكالات الأخبار والإختراقات والهجمات السيبرانية، بشكل أسرع وأسهل بكثير وأكثر فائدة وتنوعاً وعمقاً وحجماً في المعلومات عما كان يقوم جيمس بوند في أفلامه وغيره من الجواسيس، بغية الحصول على معلومات عن شركات معينة والسيطرة عليها.

يعرف الخبراء التجسس الاقتصادي بأنه الاستهداف غير القانوني والسرقة للمعلومات الاقتصادية القومية الهامة. وقد يشمل التجسس الاقتصادي الاستيلاء السري أو السرقة الصريحة لمعلومات تخص الملكية لا تُقدّر بثمن في عدد من المجالات بما فيها التكنولوجيا والتمويل والسياسة الحكومية. ويختلف التجسس الاقتصادي عن التجسس التجاري أو الصناعي بعدة طرق – من المرجح ان يكون تحت رعاية الدولة وله دوافع اخرى غير الربح او الكسب ( مثل سدة فجوة التكنولوجيا ) ويكون أكبر من حيث الحجم والنطاق . وإعترافاً بالتهديد الناجم عن هذا النشاط ، وقعت الولايات المتحدة على قانون التجسس الاقتصادي لتفعيله في اكتوبر 1996.

ملايين الدولارات لتدريب العقول

وليس سراً المليارات من الدولارات التي تخصصها الدول الكبرى والمتطورة في قطاعات العلوم والتسليح والتكنولوجيا بغية تعزيز إقتصادها، والمحافظة على سمعتها، ومن بين ذلك تخصيصها ملايين الدولارات لتنشئة وتدريس عقول للقيام بهذه المهمة الشائكة والحساسة؛ فيما تنجح الدول المتورطة بالتجسس من الحصول على هذه المعلومات على طبقٍ من ذهب، من دون أعباء أو تكاليف لمشاريع نادراً ما تنجح.

من هنا يُشكل هذا السلاح، “السلاح الخفي للقوى الكبرى” نظراً لتمكنه من السيطرة من خلال المعلومة، التي تلعب دوراً حاسماً في إتخاذ قرارات هادفة، لكسب أسواق جديدة.

من داخل منزلك بات يمكنك إختراق أجهزة عدوك أو منافسك أكان دولة أو شركة أو شخصاً والحصول على أهدافك وتوجيه ضربة قاسية له، من خلال تدمير عمله ومخططاته، تقنية عالمية دفعت بالكثير من الدول والشركات إلى اللجوء نحو هذا النوع المعاصر من التجسس، لم يشكل مصدر إلهام لها في السابق، ومن هنا تلاشى النموذج ” التجسسي ” لبوند أشهر عميل سري في العالم على مدى 20 عاماً.

سلاح المستقبل لدى الانظمة الشمولية

لقد أدت التحولات الجيوسياسية والتطورات التكنولوجية التي شهدها العالم في السنوات العشرين الأخيرة إلى زيادة أنشطة التجسس الإقتصادي، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال أقوى دولة في العالم إلا أن تفوقها على بقية الدول تراجع على إمتداد 30 عاما منذ سقوط الإتحاد السوفياتي، وفق ما يقول الكاتب بين ويست في تقرير نشره موقع “ستراتفور” (Stratfor) الأميركي.

خطر على الأمن الإقتصادي والقومي

فالولايات المتحدة تواجه المزيد من التحديات بفعل إنتقال النظام السياسي من عالم أحادي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب، وهذا يعني إحتدام المنافسة الإقتصادية، وخلق المزيد من الحوافز والفرص للانخراط في أنشطة التجسس الاقتصادي، الذي وصفه الموقع بأنه سلاح المستقبل في أيدي الأنظمة الشمولية.

ووفق الموقع تأتي الصين على رأس الدول التي تقوم بمثل هذه الأنشطة والممارسات تليها روسيا ومن ثم الدول المرجح أن تمارس هذا التجسس وهي : إيران وفييتنام وكوريا الشمالية، يقابلها الدول التي تشكل أهدافاً لعمليات التجسس الإقتصادي، وقائمة هذه الدول في إزدياد مع تنوع الإقتصادات وإنتشار التكنولوجيا وهي تضم حالياً الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان ودول الإتحاد الاوروبي .

في 30 يوليو 2009 نقلت صحيفة الغارديان البريطانية عن “والتر أوبفيرمان” خبير حماية التجسس في مكتب الاستحبارات المضادة لولاية “بادن – فورتمبيرج” الألمانية تقديره خسارة الشركات الألمانية من عمليات التجسس الصناعي التي تتعرض لها بحوالي 50 مليار يورو، ونحو 30.000 وظيفة كل عام، موضحاً أن سبب إهتمام الصين بالحصول علي تلك الأسرار، هو أن تصبح القوة الرائدة في الاقتصاد العالمي بحلول عام 2020.

بدوره أكد مدير مكتب التحقيقات الفدرالي “إف بي آي” (FBI) كريستوفر راي في 8 تموز 2020 أن أكبر تهديد تتعرض له الولايات المتحدة على المدى الطويل هو التجسس الاقتصادي من قبل الصين، معتبراً أن ذلك يشكل خطراً على أمنها الاقتصادي والقومي، لافتاً إلى أن نصف قضايا مكافحة التجسس المفتوحة -التي يبلغ عددها 5 آلاف قضية، ويعمل عليها مكتب التحقيقات الفدرالي في أميركا حالياً- تتعلق بالصين.

وفي العام 2015 توصلت أمريكا لاستنتاج بأنها قد خسرت 300 مليار دولار ومليوني وظيفة، وكان ذلك بسبب التجسس الاقتصادي والسبب كانت الصين، عندها إتفق أوباما مع الرئيس الصيني على وقف التجسس الاقتصادي بين الدولتين، وهذا يعتبر أول اعتراف من الحكومات بوجود ما يُسمى التجسس الاقتصادي، ولكن للأسف لم يكتمل ذلك الاتفاق.

عمليات التجسس والإحتيال تبقى سرية

وإنطلاقاً من قاعدة تفيد بأن الإقتصاد هو شريان الحياة بالنسبة لأي دولة أو شركة أو مؤسسة، ظهر التجسس الذي يسمح لدولة ما بزرع جواسيسها داخل دول أخرى بالدرجة الأولى، وداخل المنظمات الإقتصادية أو المؤسسات والشركات الضخمة ذات الشهرة العالمية لتلك الدول بالدرجة الثانية بغية الوصول على معلومات للوقوف عند تفاصيل إقتصاد كل منها، ومن ثم ضربه بأقل تكاليف وتدميره كليا.

في الدرجة الثالثة تأتي الشركات الصغرى والمتوسطة، حيث نجد الكثير من حالات التجسس في مجالات تصنيع الآلات والصناعة بصفة عامة، وكذلك في مجالات الأدوية وعلوم الحياة، مجالات تضاف إلى مجالات حرفة البناء وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ودور النشر وتكنولوجيا الفضاء وصناعة التسليح، المتعلقين بالدرجة الأولى والثانية.

تتعدد أساليب التجسس الإقتصادي عبر العالم، وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن القيام بذلك عبر جواسيس تزرع في البنوك والشركات أو عبر الاختراق السيبراني للشركات والمؤسسات الكبيرة، أو عن طريق زرع شركات كاملة داخل دولة معينة، وغيرها الكثير من الاساليب التي يتفنن فيها الجواسيس بها لتحقيق المهمة الموكلة إليهم.

وأمام هذا الواقع يبقى السؤال لماذا أخبار عمليات التجسس والاحتيال غير معروفة إلا لدى قلة من الناس مع أن الأرقام التي تخسرها الدول هي كبيرة جداً؟ لأن هذه الشركات وبكل بساطة، تخاف التصريح حفاظاً على المساهمين وكي لا تخسر الشركة مكانتها واستثماراتها.

وكذلك يبرز السؤال ما الهدف من كل ما يحصل؟ الهدف ببساطة يكمن في عاملين :

إذا أرادت دولة إغراق دولة أخرى، أو استعمار دولة لدولة أخرى اقتصادياً بمعنى أن الدول النامية هي أكثر الدول التي تتحول للتجسس الاقتصادي، لرفع شأن اقتصادها وزيادة نموها من خلال ارسال جواسيس ومستثمرين لدول كبيرة للحصول على مشاريعها ومخططاتها الاقتصادية، بهدف سحب الأموال منها واستثمارها في الدول النامية وتقوية اقتصادها.

في الختام لا بد من القول إنه عندما تتعثر تلك الشركات الكبرى يتأثر الاقتصاد ويزداد التضحم الذي يضرب بدوره المجتمع بأكمله خصوصاً في الدول العظمى مثل أمريكا ما يعني إرتفاع الأسعار وإرتفاع نسبة البطالة وإنهيار العملات، وهذا ما حصل عام 2008 حيث جعل العالم كله يعاني اقتصادياً بشكل حاد مثلما حصل في اليونان التي أعلنت إفلاسها، والتاريخ يعيد نفسه اليوم جرّاء أزمة كورونا.

رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية. د. خالد زين الدين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *