إحتِلال العُلماء
الحربُ على الأدمغةِ إندلعت في كُلٍ من ألمانيا والعراق وتحاصرُ روسيا اليوم.
حربٌ تَدورُ رَحَاها في ساحاتِ القتال، أمام أعينِ العالم والحكومات والمنظمات والجمعيات والصحَافة والكاميرات ، تتبَعها حربٌ أُخرى تدورُ في الخفاء، ليست حربُ نفوذٍ ولا مالٍ ولا سلاحٍ كالمُعتاد، بَلْ هي حربٌ على الأدمغة، يبحثون عن شيئٍ واحدٍ فقط آلا وهو العقل البشري.
قاموا بِملاحقتِه في ألمانيا وتقاسمتهُ كلٌّ من روسيا وأميركا، ثُمَّ بعد ذلك إنتقَلت الحرب إلى البلاد التي تُشرِق منها الشمس وبعد أكثرَ من خمسين عامًا فعلوا الأمر نَفسُه مع العُلماء العراقيين الذين خَيَروهُم بين أمرين لا ثالثَ لهُما:
إمَّا طلقةٌ في الرأس أو تسليم أبحاثهم ومُخطتاطهم والتعاون معهم .
واليوم الدولةُ التي لاحقت العلماء الألمان تَجد عُلماؤها مُبعثرينَ في جميعِ الأصقاعِ ، بعد أن قامت دولُ العالمِ بإصطيادهم.
حروبٌ كثيرةٌ تخوضها دولُ العالم يكونُ فيها القتل هدفًا رئيسًا، وهذه واحدةٌ من تلكَ الحروب، لكنها تقوم على تقديم الحمايةِ بدلًا من التدميرِ.
هذه هي حربُ أمانٍ وإطمئنانٍ تأتيك من ألدُ أعدائك، وهنا نسرُد لكم اليوم حقيقةَ تلك الحرب.
عملية [مِشبك الورق Operation Paperclip ] لم يأتوا بواحدٍ أو إثنين، ولا حتى بمئةٍ أو مئتين؛ وإنَّما وصل عددَهُم إلى أكثر من ألفٍ وستمائة ١٦٠٠ عالمٍ ألماني، كانوا من أفضلِ العقولِ العلميةِ والتكنولوجيةِ في تلك الفترة ومع دخُول الحرب العالمية الثانية مراحِلها النهائية ، تعاونت المنظمات الأميركية والبريطانية للبحثِ في ألمانيا عن أكبرِ قدرٍ مُمكن من أبحاثِ التطوير العسكري والعلمي والتكنولوجي في عمليةٍ سرية أُطلِقَ عليها في الأصل إسمُ عملية [أوفر كاست] ولكن تم تغييرُ إسمها فيما بعد إلى عملية [مِشبِك الورق}.
والإسم هو عبارةٌ عن إشارةٍ لإستخدامِ مشابك الورق عند الإمساكِ بملفاتِ العلماء الألمان.
في سبتمبر / أيلول من العام ألفٍ وتسعمائةٍ وستةٍ وأربعين ١٩٤٦ ، وافق حينها الرئيس الأميركي [ هاري ترومان] رسميًا على العمليةِ بشكلٍ سري وكانت تَهدف تِلك العملية البحث عن العلماء الألمان وتبييضِ جرائِمهم ومَنحهم حياةً وفرصةً جديدةً للعملِ مع حكومة الولايات المتحدة.
عندها بدأ الحلفاء بتمشيطِ الريف الأوروبي بحثًا عن مخابئٍ للأسلحة الألمانية؛ صُدِمُوا لرؤية مستوى التطور والتقدم الذي أحرَزه أولئك العلماء الألمان في تطويرِ أسلحة الدمار الشامل.
قال حينها الجنرال الأميركي [هيو ناير] الذي كان يعمل مسؤولًا عن القوات الجوية الأميركية في أوروبا عندما رأينا مدى تَقدم المنشآت العسكرية والصناعية الألمانية أدرَكنا حينها مدى تَخلفنا ولو لم نستوليّ على العلماء والأجهزة الألمانية كُنا سنتخلف بعقودٍ من الزمن أمام الدول الأخرى.
كانَ [فيرنر فون براون] المدير الفني السابق في مركز [بينامونده] لأبحاث الجيش في ألمانيا، أحد أكثر العلماء الألمان شُهرتاً من أولئك الذين حَصَلت أميركا على خدماتهم وخُبراتهم والذي كان له دورٌ فعالٌ في تطوير صاروخ [في تو V_2] الفتاك الذي دمر إنجلترا خلال الحرب.
كان صاروخ في تو يُعتَبَر السلاح الأكثر تقدمًا من فئته في ذلك الوقت، يمكن أن يحمل ذلك الصاروخ الذي يبلغُ طوله ستة وأربعين ٤٦ قدمًا ما يصلُ إلى ألفي ٢٠٠٠ رطل من المُتفجرات وكان قادرًا على السفرِ بسرعةٍ تفوق سرعة الصوت بخمسة أضعاف، وهو أمرٌ غير مسبوقٍ في الأربعينيات ، في حين لم يكُنْ أي سلاح من أسلحة الحلفاء قادرًا على مُجاراته، وكانت أوروبا تُصلي حتى لا تَسقط هذه الصواريخ على إحدى مدنها.
تَحول الصاروخ فيما بعد إلى الأساس الذي بُنِيَّت عليه كل الصواريخ الحديثة.
تم إحضار [فون براون] مُخترع الصاروخ وغيره من علماء الصواريخ إلى [فورت بلس Fort Bliss ] في تكساس بصفتهم موظفين خاصين في وزارة الحرب لمُساعدة الجيش الأميركي في تجارب الصواريخ.
أصبح فون براون فيما بعد مُديرًا لمركز مارشال لرحلات الفضاء Marshall Space Flight التابع لوكالة ناسا، والمهندس الرئيسي لمركبة الإطلاق Saturn V التي دَفَعَت في النهاية نحو عشرين رائد فضاءٍ أميركيٍ إلى القمر.
كان الهدف من عملية مشبك الورق الحصول على ميزةٍ عسكريةٍ أمام الإتحاد السوفييتي الذي أطلق أيضًا مشروعًا مُشابِهًا خلال عملية أوسوافياخيم، لكنه كان أكثر عنفًا في التعامل مع العلماء الألمان، حيث قامت الوحدات العسكرية السوفييتية بتجنيد العلماء في بعض الأحيان تحت تهدِيد قوة السلاح، وقام العبقري سيرجي بافلوفيتش كوروليوف بالإشرافِ على مئةٍ وسبعين ١٧٠ من أهم العلماء الألمان من أجل تطوير الصواريخ.
تم وضعهم جميعًا على جزيرة مشددة الحراسةِ والتنعم برفاهيةٍ كبيرة، وبهذه العمليات وغيرها تمكَنَ كلٌّ من الإتحاد السوفييتي والولايات المتحدة من الحصولِ على خدمات العلماء الألمان الذين كان لهُم الفضل الأكبر في تحقيقِ نجاحاتٍ فيما يتعلق بسباق الفضاء.
هذه كانت أولُ حربٍ خاضتها الدول للحصول على العلماء والإستفادة من خدماتهم، ويُقَالُ: أن أميركا تمكنت من الحصول على إختراعٍ ألمانيٍ عبقري ، سَهَّلَ على الحكومة الألمانية عملية السيطرة على الشعب من خلال إضافة مواد مختلفةٍ إلى مياهِ الشرب، ومهمة هذه المواد هي الحد من طاقة الأشخاص من أجل سهولة السيطرةِ عليهم، وعدم إبداء أي مقاومة والإنقياد إلى تنفيذِ رغبات الدولة الحاكمة.
الوحدة اليابانية …. سبعمائةٍ وإحدى وثلاثين ٧٣١ .
في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي أنشأت اليابان مشروعًا سِريًا يُسمى [ الوحدة سبعمائةٍ وإحدى وثلاثين ٧٣١] ، بدأت الوحدة عَملها في الصين عام ألفٍ وتسعمائةٍ وسبعةٍ وثلاثين ١٩٣٧ كوكالةٍ لتعزيز الصحة العامة تهدف إلى إجراءِ أبحاثٍ من شأنها أن تُفيد الجنود اليابانيين ، مثل معرفة المزيد من الطرق التي يمكن لجسم الإنسان من خلالها مقاومةَ الجوع والعطش.
وكان للوحدة مكاتب فرعيةٌ ناشطة في جميع أنحاء الصين وجنوب شرق آسيا.
في البداية أجروا التجارب على المتطوعين اليابانيين، لكن طموح العلماء اليابانيين كان أكثر من ذلك بكثير، وخططوا لإستخدام الصينيين في تَجاربهم المريرة، كان قائد الوحدة الجنرال [شيرو إيشي] ضابطٌ طبيٌ في جيش كوانتونغ ويُساعدهُ عددٌ كبيرٌ من العلماء، تسببوا جميعهم بمقتلِ نحو نصف مليون شخصٍ من خلال تنفيذ البرامج المرتبطة بالوحدة سبعمائةٍ وإحدى وثلاثين ٧٣١ ،
وعندما علموا أن اليابان متجهةٌ لخسارة الحرب وإعلان الإستسلام سارع العلماء ودمروا المراكز التي عَملوا بها؛ لأن المشروع شديد السرية ونجحوا في تدميرِ الكثير من الأدلة.
لم تعترف الحكومة اليابانية بهذه الفظائع حتى عام ألفٍ وتسعمائةٍ وثمانية وثمانين ١٩٨٨، وبدلًا من معاقبة المشاركين في جرائم الوحدة سبعمائةٍ وإحدى وثلاثين ٧٣١ ،تمت مكافأتهم.
فقد عادَ كثيرون منهم إلى المجتمع وإستمروا في الحصول على وظائفٍ ناجحةٍ في مجالاتهم، كما قررت القوات الأميركية وعلى رأسهم الجنرال دوغلاس ماكارثر عدم محاكمة علماء الوحدة سبعمائةٍ وإحدى وثلاثين ٧٣١.
وبعد أن حصل على الضوء الأخضر من القيادة الأميركية منح ماكارثر المتورطين حصانةً مقابل المعلومات التي جَمعوها أثناء إجراء تجاربهم، ورأى أن مُتابعة المحاكمات ضد هؤلاء الناس تُعيق حصول الأميركيين على المعلومات الطبية التي تم توثيقها من هذه التجارب.
إستهداف علماء العراق…..
خلال القرن العشرين كان العراق واحدًا من أهم القوى العلمية في العالم العربي حين إمتلك بنيةً تحتيةً علميةً منافسة، وخلال تلك السنوات كانت الإبتكارات العلمية في الزراعة والرعاية الصحية وإستخراج المعادن هي التي جعلت البلاد تقف على قدميها، لكن هذه البراعة العلمية التي ساهَمت في صُعود العراق هي نفسها كانت واحدةً من أسباب سقوطِه.
كان نظام صدام حسين واحدًا من الأهداف الأمريكية خلال الغزو الأميركي، بالإضافةِ لملاحقةِ العلماء العراقيين وإعتمدت خطة أميركا على ثلاثةِ خيارات فيما يتعلق بعلماء العراق:
الأول: وهو إجبار العلماء على الإنتقال إلى أميركا والإدلاء بمعلوماتٍ حساسة حول النظام العراقي وتسليم أبحاثهم التي لديهم.
الخيار الثاني: هو الحصول على المعلومات بالإجبار من خلال الإعتقال والتعذيب ومن ثُمَّ التصفية.
وأمَّا الخيار الثالث يكون بالتصفية المباشرة، ففي عام ألفين وإثنين ٢٠٠٢ قام مجلس الشيوخ بالتصديق على قانونٍ يمنح العلماء العراقيين بطاقة الهجرة الخضراء مُقابل الحصول على المعلومات، وقالوا: “أنَ القرار سيَمنحهم آفاقًا بديلةً أكثرَ إشراقًا”.
وفي العام نفسه أصدر مجلس الأمن القرار ألفٍ وأربعمائةٍ وواحد وأربعين ١٤٤١ والذي يتضمنُ بندًا ينصُ على إستجواب العلماء العراقيين، ومَن لم ينصاعَ من العلماءِ لتلك القرارات كانت تتم تصفيته من خلال الصهاينة وبالتعاون مع العملاء العراقيين حيثُ جَنَدَ العدو لهذه المهمة أكثر من ألفي شخص بشكلٍ سري، كانت مُهمتهم ملاحقة العلماء العراقيين وتصفيتهم.
وقَدْ تمكَّنت تلك الفرقة من تصفية خمسمائةٍ وثلاثين ٥٣٠ عالم عراقي بالإضافة إلى مئتي ٢٠٠ أستاذٍ أكاديمي، وكان لمسؤولٍ عراقي حينها مساهمةٌ كبيرة في عملية الإغتيالات تلك حيثُ كان يجمع معلوماتٍ حول العلماء وأماكن إقامتهم ويقوم بتسليمها للعدو.
تسبَّبت هذه العمليات بهجرةٍ كبيرةٍ من المتخصصين العراقيين إلى أميركا ودولٍ مختلفة، ويُقدَر عددهم بسبعة عشر ألف ١٧٠٠٠ متخصص، وتُشير بعض المعلومات إلى أن عددًا لا بأس به من العلماء العراقيين باتوا يعملون في فلسطين المُحتلة.
جاء الآن دور روسيا …..
بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية، نفذ الإتحاد السوفييتي إلى جانب الولايات المتحدة برامجًا لملاحقةِ العلماء الألمان وتجنيدهم، وبعد مرور أكثر من ثمانين ٨٠ عامًا ، يُعيدُ التاريخ نفسه، لكن روسيا هذه المرة وجدت نَفسَها هي المُستهدفة.
فبعد إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بأشهرٍ نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية تقريرًا قالت فيه: “إن الرئيس الأميركي [جو بايدن] حثَّ الكونغرس على إصدار قرار يُسهِّل ويُسرِّع عملية هجرة العلماء الروُس إلى الولايات المتحدة، وهو قرارٌ يزيد الخِناق على بوتين، وفي الوقت نفسه يُقدِّم الفائدة المطلوبة لأميركا”.
ويستهدف هذا القرار الحاصلينَ على الماجستير أو الدكتوراه في المجالات الهندسية أو الهندسة النووية والفيزيائية ، كما أن روسيا تُعاني مسبقًا من أزمةٍ كبيرةٍ في هجرة العقول والكفاءات العلمية، وقد تفاقمت هذه الظاهرة حَتَّى وصلت لمستوياتٍ قياسية، فمنذ عام ألفين وأربعة عشر ٢٠١٤ وحتى يومنا هذا هاجر أكثر من سبعين ألف ٧٠،٠٠٠ عالم أبحاثٍ وأكاديميٍ من روسيا إلى دول العالم للبحث عن فرصٍ أفضل للعيش.
وبحسب الأرقام الواردة فإنَّ كل عالم روسيٍ يُغادر البلاد يُكلِّف روسيا ما بين الثلاثمائة ٣٠٠ إلى أربعمائة ٤٠٠ ألف دولار، وهذا لا يشمل الإختراعات التي قد يقومُ بها، حيثُ تُكلِّف هجرة الأدمغة روسيا سنويًا أكثر من عشرة مليارات ١٠ دولار أمريكي، وبعد إندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فَضَّلَ العديد من الباحثين والعلماء الهجرة إلى مصر والخليج العربي؛ لذا سارعت الولايات المتحدة بإصدار حزمة قراراتٍ تُسهِلُ هجرة الأدمغة الروسية إليها في محاولةٍ منها للإستفادةِ من العلماء الروس.
هذه هي قصة الحرب على الأدمغة التي تقودها الدول من أجل إضعاف المنافسين وإحكام السيطرة على المستقبل.
فهل يجب علينا أن نُصدق أن الحروب هي لمَّد يد العونِ والخلاصِ للشعوب من الدكتاتوريات والفقر والجهل والحرمان؟
أم هي لمد اليد والسيطرةِ على موارد البلاد المُحتلة وسَرقّة حضارتها وآثارها وإقتصادها ومشاريعها وخُطَطها بسرقةِ الأدمغة البشرية والعلماء والمخترعين؟
وهل الحروب دائماً على من يُفكر ببناء وطنه وتطوير أنظمته وتحديثها؟
وهل فعلاً هناك عدالة ،أم أن ما يحق لي لا يحقُ لك أن تُفكر أصلاً به؟
خالد زين الدين.
رئيس تحرير الجريدة الأوروبية العربية الدولية.
عضو إتحاد الصحفيين الدوليين في بروكسل